بقلم الدكتورة آن هسو
هناك مفهوم خاطئ شائع حول استخدام الذكاء الاصطناعي لا يزال منتشرًا في العديد من الشركات وهو أن الذكاء الاصطناعي يقتصر فقط على عمل علماء البيانات والفرق الفنية، ويسعى في نهاية المطاف إلى “نزع الطابع البشري” عن مكان العمل مما يجعل مستقبل العمل يبدو محسوبًا وميكانيكيًا. يجب التخلي عن هذه الرؤية المتشائمة والاستعاضة عنها برؤية أخرى تواكب الواقع وتتمثل في أن مستقبل الذكاء الاصطناعي سيحتضن المهارات البشرية والطابع الإنساني ولن يحل محل البشر، وذلك من أجل تحقيق نتائج أفضل للأعمال.
عندما يمتلك صانعو القرار في الشركة القدرة على تصور وصياغة الدور الذي يمكن أن يلعبه الذكاء الاصطناعي في شركتهم، عندها سيفتح العديد من فرص النمو والابتكار التي لم يكن من الممكن تصورها سابقاً. ومن خلال الجمع بين التأثير الإيجابي للذكاء الاصطناعي على الأعمال والفهم العميق للسلوكيات البشرية، يمكن للمديرين التنفيذيين تعزيز أسلوب عمل شركاتهم وزيادة رضا موظفيهم وسعادتهم في مناصبهم ورفع مستويات الإنتاجية لديهم. أما بالنسبة للموظفين أنفسهم فمن شأن التحليل الفعال للبيانات باستخدام الذكاء الاصطناعي زيادة وتنمية مهاراتهم البشرية الفطرية وتمكينهم من اتباع نهج أكثر استراتيجية وابتكارًا في عملهم اليومي.
الدور (المتطور) للبيانات في مكان العمل
مع التقدم المستمر في المجالات المختلفة للذكاء الاصطناعي بما في ذلك التعلم الآلي والتعلم العميق ورؤية الحاسوب والمساعد الرقمي وغيرها من التقنيات، سيتواصل تحسن فهمنا لكيفية تطبيق الذكاء الاصطناعي أيضًا. فالذكاء الاصطناعي لا يغير طريقة استخدامنا للبيانات الموجودة في حوزتنا فحسب، ولكنه أيضاً يغير تصورنا لمفهوم الشركات القائمة على البيانات.
مع تزايد التحول نحو العمليات الرقمية، وهو توجه تسارعت وتيرته بعد التحول الجماعي نحو العمل عن بُعد، أصبح المديرون التنفيذيون يدركون أكثر وأكثر أن الأعمال التي يديرونها هي في الواقع هي أعمال قائمة على البيانات، بغض النظر عن نوع وطبيعة الصناعة أو السوق والفئة التي يعملون فيها. والنجاح والكفاءة كشركة قائمة على البيانات لا يقتصر فقط على غرس البيانات في عملية صنع القرار التجاري، ولكن يشمل أيضًا استخدام البيانات لتشكيل العمليات الداخلية وتوجيهها، بجانب التفاعلات مع كل الأطراف خارج الشركة كالعملاء والموردين. وبالتالي أصبحت معرفة البيانات والقدرة على تطبيق النماذج والتحليلات لاستخراج الأنماط من البيانات وتفسيرها بشكل فعال مطلبًا أساسيًا لأي مكان عمل لضمان تشغيل العمليات وفق الخطط المحددة وباتساق تام مع أفضل ممارسات البيانات. مع ذلك، لا تزال العديد من الشركات معرضة للثغرات في كفاءات البيانات الأساسية التي من الوارد جداً تجاهلها بدلاً من معالجتها.
ورغم أنها فرصة شائعة إلا أنها غير مستغلة فهذه البيانات لديها الآن القدرة على توجيه قرارات العمل بشكل أفضل وصياغة ملامح السلوك البشري، أي طريقة عمل الموظفين. تعد عملية تصميم البيانات أي كيفية جمعها وتخزينها وتصنيفها، والتي تتيح تطبيق النماذج والتحليلات على تلك البيانات لاستخلاص الأفكار والنتائج، جزءًا أساسياً لتعزيز فائدتها بالنسبة للموظفين وجعلها قابلة للتنفيذ. بالنسبة للعديد من الشركات، فإن مرحلة دمج تصميم البيانات وتفسيرها كجزء لا يتجزأ من نسيج العمل لا تزال حالة مستقبلية منشودة، ولكنها ليست أولوية للوقت الحالي. وتتفاقم المشكلة نتيجة فجوة المعرفة حول البيانات، فإن لم يتوفر توافق في الآراء بشأن أفضل الممارسات لصنع القرار بشأن البيانات، يتعرض الموظفون على جميع المستويات لمشاكل وتحديات في العمليات اليومية المخصصة. أما بالنسبة لقادة الأعمال، فيشكل ذلك مصدر قلق كبير لأن التأكيدات المنطقية التي تستند إلى البيانات تؤثر على كيفية اتخاذ القرارات، وسوف يتفاعل موظفوهم بشكل مختلف فيما يتعلق بكيفية تقديم تلك البيانات إليهم.
ومن هذا المنطلق، أصبح القادة أكثر استعدادًا لمخاطر التحيز (غير المتعمد)، سواء في البيانات نفسها أو مع أولئك الذين يتعاملون معها. لنأخذ على سبيل المثال استخدام الذكاء الاصطناعي في عمليات التوظيف- إذا كانت نمذجة الموظفين الجدد تستند إلى بيانات من التعيينات السابقة، فيجب أن يأخذ تصميم آليات الاختيار ذلك في الاعتبار. لكن إذا كانت التعيينات السابقة تعكس مجموعة اجتماعية محدودة، مع الأخذ في الاعتبار عوامل مثل العمر أو العرق أو التحصيل العلمي، عندئذٍ ما لم توجد ضوابط ولم يتم تجاوز تلك العناصر، فإن النموذج سيبالغ في تقديرها في المرشحين الجدد مما سيؤثر على الأحكام على مدى ملاءمتهم للوظيفة. وتتمثل ميزة استخدام الذكاء الاصطناعي والبيانات في اتخاذ مثل هذه القرارات في أنه قادر أيضاً على التخلص من التحيز بشكل منهجي. طالما أن واضعي البيانات على دراية بالتحيزات القابلة للقياس في البيانات، فلديهم الفرصة لإزالة هذه التحيزات بشكل منهجي.
سيكون الاستخدام العادل والأخلاقي للبيانات الأساس المتين للمستقبل حيث تلعب التقنيات الذكية، مثل المساعد الذكي وأدوات التشغيل الآلي للمهام البسيطة، دورًا أكثر نشاطًا في العلاقات في بيئة العمل، الأمر الذي سيساعد في دفع تطور الذكاء الاصطناعي ليصبح شريكاً فاعلاً يتيح اتخاذ قرارات أفضل ويوجّه البشر نحو النتائج المرجوة.
تمكين وتقدير السمات الإنسانية
التحدي الماثل أمامنا قبل الوصول إلى ذلك المستقبل ليس فقط فهم الموظفين للبيانات والذكاء الاصطناعي، ولكن أيضاً فهم البيانات والذكاء الاصطناعي للموظفين. من خلال تشغيل الذكاء الاصطناعي داخليًا، عبر توزيع الأدوار والمسؤوليات وتدفق المعلومات وأوامر العمل، يمكن للشركات فهم الحالات النفسية لموظفيها بشكل أفضل من أجل المساعدة في إعادة تشكيل عمليات الشركة لتتناسب مع سلوكيات الحياة الواقعية. لنأخذ تقنيات التعرف على الصور وخوارزميات معالجة اللغة الطبيعية كأمثلة تستهلك مجموعات بيانات ضخمة من المعلومات المرئية أو النصية وتصنفها بناءً على الأنماط والقواسم المشتركة. من منظور الموارد البشرية، يمكن تطبيق هذه الأساليب لجمع بيانات الموظفين المفيدة مع الوقت لمساعدة الشركة على تحديد المحفزات الدقيقة لتحسين الدوافع في مكان العمل والارتقاء بالأداء ومستوى الرضا الوظيفي بشكل عام. على سبيل المثال، يمكن استخدام الخوارزميات لاكتشاف العلامات التي تشير إلى أن الموظف قد يكون غير راضٍ في منصبه الحالي أو حتى إن كان يفكر في ترك الشركة. يمكن للإدارة بعد ذلك استخدام هذه المعلومات لبدء إجراءات وقائية من أجل معالجة الموقف.
ومن العناصر الأخرى المهمة لفهم سيكولوجية البيانات إدراك حدودها ونقاط عجزها. ففي عالم تتزايد فيه أحجام البيانات بشكل كبير، هناك أيضاً مخاطر يجب أخذها في الاعتبار مثل الحمل الزائد للبيانات وجودة البيانات. يجب أن تدرك الشركات أن البشر لا يمكنهم استيعاب الكثير من البيانات وسيصلون إلى مرحلة الإرهاق. فكثرة البيانات لا تعني بالضرورة بيانات أفضل، بل العكس هو الصحيح في معظم الظروف. وقد أشارت الأبحاث الحديثة من الولايات المتحدة في مجال علم الأعصاب أن قدرة الدماغ البشري محدودة وعند محاولة تجاوزها سنشهد ظاهرة تُعرف باسم “العمى غير المقصود” فنتجاهل المعلومات المتاحة لنا، حتى لو كانت مفيدة.
يجب التنبّه أيضًا لخطر البيانات الخاطئة حيث يتعامل الموظفون مع مجموعات تحتوي على نقاط بيانات غير دقيقة أو غير مناسبة أو مفقودة. في مثل هذه الحالات، يمكن أن يكون عمل الموظف صحيحًا من الناحية الإجرائية لناحية طريقة استخدامه للبيانات، مع ذلك قد يميل لافتراضات خاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة أو غير مرغوب فيها. لنأخذ على سبيل المثال موظفًا يعمل في شركة أدوية قد يستخلص استنتاجات زائفة حول الاحتياجات الصحية لشريحة اجتماعية معينة أو منطقة معينة، بناءً على بيانات غير مكتملة أو قديمة، مما يؤدي إلى إهدار وقت الموظف ويفرض تكاليف باهظة على الشركة. يمكن لإعداد عمليات جمع البيانات بشكل صحيح مع الوضوح حيال ماهية البيانات وطريقة وأسباب جمعها أن يضمن قيام الموظفين بدورهم في الحفاظ على دقتها.
علاوة على ذلك، من أجل الوصول إلى تحقيق نضج أكبر للبيانات، يجدر بنا أن نتذكر المقولة بأن ليس كل ما يحصى يحتسب وليس كل ما يهم يمكن إحصاءه. يجب أن يدرك القادة أنه إذا نظرنا إلى كافة نواحي العمل بعدسة تتمحور حول البيانات، فيمكن عندئذٍ أن نحدّ نهجنا ليقتصر على المقاييس القابلة للقياس الكمي وبالتالي نقف أمام خطر انخفاض قيمة الروابط الإنسانية.
ونظراً لأن علم البيانات يجمع نقاط البيانات الفردية، يمكن أن تضيع الفروق الدقيقة في المشاعر الفردية بسرعة، مما يؤدي إلى زوال العناصر الفريدة للتفاعلات البشرية. على سبيل المثال، كيف يمكنك وضع قيمة رقمية دقيقة لصفات مثل الولاء والإبداع والتعاطف والفكاهة، وهذه القيم جميعها تسهم في خلق بيئة عمل سعيدة ومنتجة؟ أساسًا، الهدف من الذكاء الاصطناعي ليس اختزال كل شيء إلى مجموعات مختلفة من البيانات، بل يجب أن يسعى إلى تعزيز الطابع الإنساني في مكان العمل من أجل الارتقاء برفاه الموظف ورعايته.
إضفاء الطابع الإنساني على الذكاء الاصطناعي
يعتبر الذكاء الاصطناعي في جوهره تقنية بشرية، ويجب التعامل معه على هذا النحو. سيكون أنجح أرباب العمل وأكثرهم تميزاً في المستقبل هم أولئك القادرون على تشغيل أماكن عمل تتمحور حول الأفراد في عالم يرتكز على البيانات بشكل متزايد. لذلك من الضروري للقيادة أن توضح كيفية استخدام البيانات عبر كافة أقسام الشركة لدعم الموظفين لتحقيق المزيد والإنتاج بطريقة أفضل وأسرع وأذكى.
يتطلب اتباع هذا النهج تقديرًا ليس فقط للفرص الموجودة في البيانات، ولكن أيضًا للقيود النفسية والسلوكية المتجذرة لدى أولئك الذين يتعاملون معها. ومن خلال عمل تطبيقات الذكاء الاصطناعي والبيانات التي يجمعها بشكل متسق مع الموظفين، يمكن للقادة توجيه مبادراتهم للذكاء الاصطناعي ليتم تنفيذها بأسلوب يعزز تميز شركاتهم. وسر هذا التميز هو في واقع الأمر الموظفون.